الاثنين، 23 يوليو 2012

تجربة العدالة الثورية -الجزء الثاني-:::

عن اي عدالة انتقالية تتحدثون ..الجزء الثاني-


تجربة العدالة الثورية....


في التاريخ البعيد كانت الثورات والاضطرابات والصراعات تتسم بالدموية فالغالب والمنتصر كان يفعل ما يريد بالمهزوم بلا أي ضوابط ، فلو استثنينا تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال لمن نصبوا له المكائد وحاولوا قتله وحاصروه وجوعوه وعذبوا اصحابه وقتلوهم ، قال لهم لما فتح مكة منتصرا " اذهبوا فانتم الطلقاء " واكتفى بالقول لمن قتل " حمزة بن عبد المطلب " ولّى وجهك عنيولم ينصب لهم المشانق ولم يحاسبهم على ما سبق ، ولكن ذلك تصرف نبوة ظل شاذا قياسا للصراعات الأخرى في تاريخ البشرية وخاصة في التغيرات الكبرى كالثورات ، فتليها دائما تصفيات واعمال قتل عشوائي لكل الخصوم بقطع النظر عن البحث عن الدور الذي كان يلعبه كل مشتبه ، فلا يختلف الحاكم الجديد في ممارسة القتل والتعذيب عن الحاكم الذي سبقه ، فيسقط ملايين القتلي ولا مسؤولية لأحد .


حدث في الثورة البلشفية في روسيا ، كما حدث في الثورة الفرنسية ام الثورات الحديثة المبشرة بالحرية والديمقراطية ، فقد تلاها قطع رؤوس الاقطاعيين ورجال الدين وسالت دماء بلا حدود ،


وفي منطقتنا العربية ، في مصر عبد الناصر وكل الأنظمة القومية الثورية (ليبيا والعراق وسوريا ,غيرها ) صدرت احكام بالقتل ونفذ القتل بلا احكام احيانا لمجرد شبهة مناصرة الآنظمة المهزومة ، ولم يختلف الوضع في ايران الامام الخميني رحمه الله ، فكانت تنصب المشانق لكل الذين كانوا جزءا من نظام الشاه بقطع النظر عن مدى حيز المسؤولية بالضبط التى كان هذا او ذاك يضطلع بها


فالى حدود اواخر السبعينات ومع نجاح الثورة الايرانية ، كانت الثورة تعني تصفية كل من ثار الشعب ضدهم من مسؤولين ، دون عناء البحث عن مدى تحقيق العدالة في حق هؤلاء ، ودون الالتفات كثيرا الى مدى مسؤولية كل فرد عما ارتكب من فعل شخصي وانما يحمل كل واحد مسؤولية جماعية عن الانتهاكات والفضائع في نظام سابق كان جزءا منه دون بحث عن الجرم المنسوب له شخصيا ،


كل هاته الفترات لم تنضج معها افكار حقوق الانسان ولم تولد مفاهيم ما يعرف بالعدالة الانتقالية بآلياتها النمطية والتى اصبحت تشكل استراتيجيا عالمية ومطامح شعبية كبرى للتعامل مع ارث انتهاكات الماضي ، ولكن لم يمت هذا النوع من العدالة في وقتنا الحاضر ، فقد وقعت عدة تصفيات وانتهاكات خلال الثورة الليبية ، كما نجد اليوم في مصر من يدعو الى العدالة الثورية خاصة بعد فشل القضاء في ادانة المتسببين في الانتهاكات بتبرئة نجلي مبارك ، بل وصل الأمر باحد نواب مجلس الشعب مصطفي النجار – عن حزب العدل - تقديم مشروع قانون للمجلس سماه" مشروع قانون العدالة الثورية " لا يختلف في مضمونه عما كان يحدث في تجارب العدالة الثورية التى سبقت الاشارة اليها .


ايجابياتها


فما يميز هذا النوع من العدالة "الثورية " ، هو سرعة التعامل مع ارث الماضي وهو امر ينشده المظلومون والمتضررون من الانتهاكات السابقة ، فلا يكادون يجدون مجالا للصبر ، فهم يظلون ينتظرون طيلة عمرهم النضالي مثل تلك اللحظة التى يحصلون فيها على حقوقهم ، فتشفى صدورهم وهو ما يساهم في اشاعة الطمانينة لدى الناس ، ويؤدي الى تحسن وانفراج ويساعد على الاستقرار والرضى العام ، بعدم افلات المجرمين من العقاب ،


فبمجرد صدور حكم مما يسمى بالمحاكم الثورية باعدام شخص واحد ثبت تورطه في جريمة قتل فانه يشفي غليل عائلة الضحية وعوائل كل الضحايا والناس عموما ويشعرهم بالعدالة فينتظرونها ويأملون بها كثيرا ، كما يؤدي الى انهاء كلي لفلول الثورة المضادة ، كما نجحت تلك التجارب الى حد ما في تحسن الوضع الاجتماعي للفئات الضعيفة ووجود طبقات وسطى واسعة العدد وتقلص ظاهرة الفقر والخصاصة عموما وشهدت تدخلا قويا للدولة للحد من البطالة وتاميم المنشئات الكبرى .


سلبياتها :


ولكن كثيرا ما تنزلق العدالة الثورية الى ظلم وانتهاكات "ثورية" ، فنظرا لسرعة عملها واستثنائية المحاكم التى تنشأ للنظر في انتهاكات الماضى وطبيعة تركيبتها الموالية للثوار ، فتجدها اقرب الى التركيز على الانتقام من سلوكيات الحكام والمسؤولين السابقين ، فبولائها للمنتصرين فانها قد تاتي على المذنب وعلى البرىء وقد تأتي على المذنب باكثر مما اذنب فتضمحل اهم مبادىء المسؤولية الجنائية وهي شخصية الجريمة وشخصية العقوبة ، ويعاقب الفرد طبق مسؤولية جماعية للنظام الذي كان ينتمي اليه وقد لا تكون له احيانا اية مسؤولية شخصية مباشرة عن الانتهاكات الكبرى ، فمجرد الانتماء للمنظومة القديمة يضع في جانبه قرينة ادانة بدل قرينة البراءة التى يتمتع بها كل الناس في الأوضاع العادية ،


بل وقد تنزلق تلك العدالة الثورية الى رفاق الأمس انفسهم فتصح مقولة ان الثورة تأكل ابناءها ، فيصبح كل مخالف للراي هدفا ايضا للمحاكم الثورية ، حدث في مصر عبد الناصر وايران الامام الخميني رحمه الله وفي كل العدالات الثورية تقريبا ، وفي كل الأحوال فان هاته التجارب خاصة في التغيير بالانقلابات قد تفرز رجوعا الى الانتهاكات وبطرق مختلفة واحيانا بطريقة اشرس واشد من الانتهاكات السابقة ، (مصر عبد الناصر والسادات ومبارك ) ، وليبيا القذافي وسوريا الأسد ، فكلها ظهرت مبشرة بمبادىء الحرية والعدالة ومقاومة الفقر والظلم وتحولت الى دكتاتوريات مقيتة ، وتصل في نهاياتها الى افقار الشعب باكمله وطغيان فئة او طبقة حاكمة ضيقة العدد مستبدة سياسيا وتستأثر بكل خيرات البلد اقتصاديا .


ومن ثمة كان البحث عن طريقة افضل واكثر عدلا للتعامل مع ارث انتهاكات الماضي للسلط المستبدة فظهرت مفاهيم ما اصبح يعرف بالعدالة الانتقالية وهي موضوع الجزء الثالث من هذا المقال

الاثنين، 16 يوليو 2012

عن اي عدالة انتقالية تتحدثون ....



عن اي عدالة انتقالية تتحدثون ...

دراسة في حلقات عن مشروع العدالة الانتقالية في تونس (الحلقة الاولى )
لئن كانت العدالة بمفهومها المطلق الذي يتجاوز فكرة العدل صفة الاهية بامتياز ، فان تحقيقها في الحياة وبين البشر يظل المطمح الأول لكل انسان ،وهي مقياس استقرار الشعوب ونموها وتقدمها وازدهارها وامنها ومناعتها ، وهي مطمح كل الثورات والتغييرات الكبرى عبر تاريخ البشرية الطويل ،
الم يقل رسول قيصر ملك الروم لما وجد عمر ابن الخطاب ، امير المؤمنين لدولة ممتدة جدا جغرافيا وبشريا ، نائما في مكان قصى بلا حراس "رجل لا يقر للملوك قرار من هيبته يكون هذا حاله، ولكنك ياعمر عدلت فأمنت فنمت. و ملكنا يجور فلا عجب إذا سهر خائفا"
الم يكن اول ما سأل عنه وينستون تشيرشل رئيس الوزراء البريطاني ، هي العدالة في بلده الذي يتعرض للغزو ، فلما تأكد انها بخير قال " دعوني انام " فلا خوف على انقلترا ،
فالعدالة هي الغاية النبيلة والمبتغى الأزلي الذي تنشده كل ثورة ،
وتتباين اليات وطرق محاولات تحقيقها عبر التجارب في الدول المختلفة التى شهدت ثورات او تغييرات كبرى في سياساتها ، فانتقلت البشرية من الانتقام العشوائي للمنتصر من المنهزم في الحروب والغزوات الى ما عرف بالعدالة الثورية وهي تنصيب محاكم خاصة واستثنائية بطرق عمل استثنائية لتصفية الحكام القدامي ومعاونيهم ، وصولا الى العدالة الانتقالية التى اعتبرت الآلية الأفضل للتعامل مع ارث انتهاكات الماضي السياسية والاجتماعية في الدول التى شهدت انتقالا من الاستبداد الى الديمقراطية ، فهل نحتاج في تونس الى عدالة ثورية ، ام عدالة انتقالية ، ام الى نوع خاص من انواع العدالة قد يمزج بين الاثنين ، ام هل تضيع العدالة عندنا بين تلك التصورات والمراجعات ، ونكتفى بما يمكن ان نسميه بالعدالة الالهية ، خاصة بعد مرور اكثر من عام ونصف من اعلان وقرار الشعب التونسي بالقطع الكلي مع الماضي اثر اندلاع ثورة شعبية عارمة وما زال ملف العدالة لعوائل الشهداء والجرحى وضحايا الاستبداد سياسيا واجتماعيا يراوح مكانه تقريبا ،
ولئن صبر المظلومون طويلا في تونس –لعشرات السنين احيانا – في ظل الدكتاتورية فان مجالات الصبر تتقلص وتضيق كثيرا بعد الثورة وتزيد حاجة المظلوم وضحايا الانتهاكات الكبرى الحاحا لمعرفة الحقيقة كاملة والوصول الى الجاني وتسليط العقاب المناسب عليه ، وليس اقل من ذلك تحقيقا للعدالة واشفاء لغليل الضحايا ، فضلا عن الاعتراف لهم بالسبق في مقاومة الاستبداد وبما تعرضوا له من تنكيل وتحمل المسؤولية الجماعية لما حدث لهم وضمان عدم العود للانتهاكات و عدالة مستقبلية دائمة في ظل صراع مختلف على السلطة لا يقوم على نفي الآخر وابعاده قهرا ولكن على الديمقراطية كاداة سلمية للتداول على السلطة ، وعلى احترام حقوق الانسان كقيم ثابتة لا تتغير ، كما لا يقوم على اساس جهوى مقيت ينفى جزءا كبيرا من خارطة الوطن بما تحتوية من اضافة اقتصادية وبشرية وثقافية .
فكيف حاولت الأمم الثائرة تحقيق العدالة ، وما هي طرق تعاملها مع مستبدي الماضي ومخلفاتهم ومع الضحايا وما هي الطريقة المثلى التى يجب اتباعها في التجربة التونسية الباحثة عن العدالة ؟
عمر الرواني ، محامي وناشط سياسي

الاثنين، 2 يوليو 2012

.البوليس و السلطة ...اثنان و الشيطان ثالثهما..

... البوليس والسلطة...اثنان و الشيطان ثالثهما...


...سؤال أصبح يؤرقني هذه الأيام ...هل حان الوقت لتحرير البوليس من أغلاله ؟؟؟ وهل توفرت الشروط لتحريره من الاغلال ؟؟؟ أعتقد أن الجواب لا وألف لا فالثورة لا زالت طرية ولم يشتد عودها بعد . يقول ألفريد هيتشكوك " أنا لست ضد الشرطة، أنا أخشى فقط منهم" ، و يقول الممثل الأمريكي تيرينس هوارد " دائما كان لدي الخوف الطبيعي من الشرطة أو من إساءتهم لاستعمال سلطتهم"
لماذا لا يجب التسرع في فك الاغلال لهذا البوليس ؟؟؟؟ هذا البوليس الذي يسكن في وجداننا الى يوم الناس هذا... هذا البوليس الذي لم يتحرر بعد يحمل مسؤولية الأغلال التي تصفده وكذلك يملك مفاتيح حريته التي لم تحن بعد...
إذاً فالخوف من البوليس لا يتوقف فقط على اللصوص والمخالفين للقوانين، ولكنه خوف فطري قد يتملك الإنسان الطبيعي لأسباب عدة، قد يكون منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي بسبب السلوك الاستفزازي للبوليس، والذي يتسم بالحدة و الاستعلاء والكبر والنرجسية في التعامل اليومي مع المواطنين في معظم الأحيان والأماكن، حتى أن الناس أصبحوا يخشون من المرور أمام أقسام الشرطة، فضلاً عن الدخول إليها أو التوقف في حملات التفتيش حتى وإن كانت معهم أوراقهم الثبوتية الكاملة، فلقد تملك الناس الخوف والشعور بفقدان الثقة، حتى أنهم باتوا يؤثرون السلامة بتحاشي التعامل مع البوليس، لأن المسألة لا تخضع للقانون وإنما للحالة المزاجية لضابط البوليس الذي يتسم معظمهم بسوء الأدب والقسوة وكأن المجتمع بجميع مواطنيه قد تحول أمام ضباط الشرطة إلى مجرمين ومنحرفين، فأصبحوا لا يقدِّرون حق المواطن، وذلك بسبب العقيدة الفاسدة و سوء التربية البوليسية والتي أخرجت لنا وحوشاً بوليسية بأشكال بشرية تفترس المواطنين كلما سنحت لهم الظروف، وكيف لا وهم يجدون التشجيع والدعم والمُساندة من مسئوليهم الكبار.
إن السلوك البوليسي البربري مع المواطنين ليس وليد اليوم، بل هل سلوك ممنهج تم تطويره على مدى عقود قبل الثورة، الأمر الذي يجعل من المستحيل تغييره بعد الثورة إلا من خلال القيام بثورة أمنية، تتغير معها العقلية الأمنية والقيادات والرموز البوليسية التي تدير هذا الجهاز الخطير في تونس.
ولكن السؤال هو مالذي دفع البوليس للوصول إلى هذا القدر من العدوانية والكبر والاستعلاء والوحشية في التعامل مع المواطنين؟
إن الإجابة على هذا السؤال تعود لأسباب عدة منها:
1- الشعور المفرط بالقوة والسطوة في ظل تطبيق التعليمات دون رقابة القانون.
2- ضياع مبدأ المحاسبة والمساءلة للمخالفين منهم نتيجة تواطؤ وتستر بعضهم على بعض.
3- ظهور التواطؤ في صفوف البوليس والتستر على المخالفات في حق المواطنين، الأمر الذي دعم فكرة إعادة بناء الأجهزة الأمنية.
4- خوف المواطنين من تقديم البلاغات والشكاوى لما يتعرضون له من انتهاكات خوفا من الانتقام والتنكيل.
ولقد كان من مظاهر كبر واستعلاء رجال البوليس قبل الثورة رفضهم للشعار الصحيح "الشرطة في خدمة الشعب والذي تطور بضغط من القيادات العليا والوسطى إلى "الشرطة والشعب في خدمة الوطن وبالطبع الوطن لم يكن تونس وشعبها بل كان في المنظور الأمني هو كل من هو أقوى وأعلى منهم قوة وسطوة وبطشا وتمضهر ذلك في حماية سلطة الحزب والزعامات ثم العائلة الحاكمة.
لقد كانوا يتعاملون مع المسئولين في نظام الدولة بهذا المنطق المعوج الذي لا يستند للكرامة الإنسانية وإنما لقوة السلطة وسطوة المال ناهيك عن تفشي الفساد في أجهزة الأمن كنتيجة طبيعية لعلاقات كبار الضباط برجال الأعمال المحميين والمشاركين في امبراطورية الفساد مع عائلة بن علي والطرابلسية ، الأمر الذي يدلل على فساد العقلية البوليسية وتحولها إلى عقلية إجرامية مكيافيلية تبرر الوسيلة للحصول على غاية هي أساساً ليست بنبيلة.
والنتيجة ما شاهده العالم من إرهاب وإجرام حقيقي في حق ثوار 17 ديسمبر 14 جانفي الذين واجهوا الموت بصدورهم العارية في ثورة إنسانية تعد من أنبل ثوارات التاريخ الإنساني رفعة وتحضر، وكان من نتائجها وقوع أكثر من 300 شهيد وفق المنظمات الحقوقية ومئات الجرحى والمصابين في حرب حقيقية بين جيش البوليس و شعب أعزل .
والمحصلة هي هزيمة ساحقة ومذلة من هذا الشعب الأعزل لجميع أنظمة القمع البوليسية والأمنية التي استخدمت كافة أنواع الأسلحة لكسر إرادة شعبية سلمية، ثم هرب هذا البوليس بين عشية وضحاها وتنازل عن ما تبقى من عنجهيته وبطشه الذي كان بالأمس عنوان ورمز النظام الاستبدادي الفاسد .البوليس ا لدي قرر الدفاع عن الدكتلتور ليكتب آخر سطور قصة البوليس الذي قرر التخندق مع نظام فاسد ضد شعب حر।
فتخندقوا مع الميليشيات التجمعية وعصابات المافيا التي تحكمت في رقاب العباد والبلاد وأطلقوا سراح السجناء الخطرين ليعيثوا في الأرض فساداً انتقاماً من الشعب الذي هزمهم في معركة الرديف وسيدي بوزيد وتالة والقصرين وحي التضامن والكرم وكل المدن والاحياء التي عوضتهم لحماية الوطن شعبا ومؤسسات عندما فروا كالجرذان ذات ليلة قرر فيها سيدهم تركهم للمجهول بعد أن أمن حياته وأسرته.
رأيناهم عندما كان يحتفل الشعب بأول عيد لثورته مكبلين ومصفدين بأغلال المهانة وهم ينظرون الى هذا الشعب يحتفل بثورته ويترحم على أرواح شهدائه ويتذكر أصحاب العاهات والمعاقين الذين خسروا أعينهم أو أجزاء من أجسادهم فداءً لتونس في حرب ضد البوليس ، إن الشعب له دين كبير لدى هذا البوليس لن يستطيع تسديده على مدار التاريخ.
إن مستقبل البوليس يبدو قاتماً، عندما يتكتم عن العملاء من الاعلاميين والسياسيين الفاسدين الذين تعاملوا معه وبطشوا بالمعارضين لسلطة الدكتاتور .... عندما أحرقوا ملفات الفساد وتقارير التخابر وأشرطة الخزي التي كانوا يفبركونها للشرفاء ولا نرى الشعب سيفرح كثيرا عندما يراه يتدخل في السياسة عبر هذه النقابات التي تنسق مع الفاشلين وجرحى الانتخابات وأصحاب المال الحرام الذين يتحينون الفرصة لإعادته الى مربع البطش و الاستبداد مرة أخرى ولا أعتقد أن الأمور ستسوى بين الشعب والبوليس خلال الفترة الانتقالية أو حتى بعدها، إن الحل لن يكون إلا من خلال بقائه مكبلا بالأصفاد الى حين وضع استراتيجية شرطية وأمنية جديدة تنفذ على محورين اثنين هما:
المحور الأول: معني بنزع فتيل الأزمة مع الشعب.
المحور الثاني : معني بإعادة بناء العقيدة الأمنية لرجال الشرطة والغاء مصطلح البوليس .
المحور الأول: وهو محور نزع فتيل الأزمة مع الشعب من خلال:
1- محاسبة كل من تورط في قتل أو تعذيب أو الإساءة أو الإهانة للمواطنين ومن تستر عليهم وصدور أحكام رادعة ضدهم، فمن يقتل مواطن بغير وجه حق يقتل. ومن عذب وأهان واعتدى على شرف المعارضين وسرق أرزاقهم يجازى بما فعله .
2- تقديم البوليس لاعتذار رسمي انتظرناه طويلاً عقب الرابع عشر من جانفي 2011 ولكنه لم يأت ليؤكد مدى التكبر البوليسي على الشعب العظيم.
3- تشكيل وفد من إدارة العلاقات العامة لزيارة عائلات الشهداء والجرحى لتقديم التعازي والاعتذار عن ما حدث وصرف رواتب شهرية مدى الحياة لأسرة كل شهيد من ميزانية الداخلية منفصلة عن ما تم صرفه لهم من ميزانية الدولة.
4- استكمال تطهير المنظومة الأمنية بعزل وفصل جميع القادة الأمنيين الكبار من الصف الأول والثاني.
5- حل البوليس السياسي ووضع ارشيفه على ذمة المجلس التأسيسي لدراسته والتصرف فيه في اطار العدالة الانتقالية
ونستطيع أن نقول أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة للهوية الفكرية والأيديولوجية الأمنية لجميع أجهزة البوليس حتى تتسق مع قيم وثقافة الثورة التونسية الشعبية لاستعادة الشعب لسلطته فلا يحق أن يقوم الشعب بدفع رواتب ومكافئات وحوافز لجهاز يقتله ويهينه ويقمعه وما فعله الغنوشي في الحكومة الألتفافية الأولى ومن بعده الباجي في زيادة رواتبهم خير دليل على قابلية البوليس للتطويع ولهذا نريد استراتيجية أمنية لتحويل الجهاز الأمني من جهاز إلى مؤسسة أمنية تدار بفكر مدني لديها رؤية ورسالة أمنية تستند للقيم وحقوق الإنسان لتكون في خدمة هذا الشعب العظيم.
المحور الثاني: إعادة بناء العقيدة الأمنية لرجال الشرطة.
ولتحقيق هذا المحور يجب اتباع عدة نقاط هامة منها:
1- إعادة بناء جهاز البوليس وتحويله إلى مؤسسة تدار بفكر مؤسسي خدمي حديث و تغيير اسمها إلى مؤسسة خدمة المواطن بهدف تمدين الشرطة وتأهيلها لاستقبال مفاهيم "خدمة البوليس" للشعب.
2- العمل على تكوين مؤسسة شرطية لمكافحة الجريمة وعصابات المخدرات والمخالفين تخضع للقانون والتقييم الدوري والسنوي والمساءلة من مجلس الشعب المنتخب ديمقراطياً.
3- فحص جميع رجال الشرطة من الناحية النفسية للتأكد من سلامتهم النفسية خاصة من مشاعر السادية والعنف والاتزان الانفعالي.
4- فرز نتائج الفحص والتعامل معها وفق حالتين: حالات تحتاج إلى إعادة تأهيل ومعالجة نفسية، وحالات لا تصلح للعمل لابد من فصلها فوراً بهدف تلقينهم شرف الجندية وإكسابهم الولاء الوطني وتصحيح العقيدة " الأمنية " من حماية لنظام أو حكومة إلى حماية شعب ووطن
5- التزام الشرطة بتطبيق وتجسيد شعار "الشرطة في خدمة الشعب"
6- إشراك شباب الثورة او ابناء عائلات الشهداء والجرحى في العمل الشرطي الذي يتطلب احتكاك يومي مباشر للتخفيف من حدة غضب الشعب ويسهم في حل جزء من مشكلة البطالة ويبعد نهائيا عقلية الثأر
7- إعادة بناء منظومة القيم الشرطية وتدريبهم عليها من خلال برامج محددة للتدريب الأمني الأخلاقي والقيمي.
إننا بحاجة إلى بناء استراتيجية شرطية متكاملة تعليمية وتربوية، عسكرية وقانونية لإعادة بناء الهوية الفكرية والفلسفة الشرطية لرجل الأمن وإعادة تثقيفه بدراسة بعض العلوم الإنسانية والسلوكية وعلم النفس الاجتماعي.
8- العمل على تدريب الشرطة سلوكياً لإكسابهم المهارات الإنسانية الأساسية للتعامل مع المدنيين ومهارات الاتصال وخدمة الشعب وفن التعامل مع الناس والذكاء الاجتماعي.
9- وضع ميثاق شرف للأخلاقيات الشرطية توضع فيه معايير الأداء الشرطي وتحديد السلوكيات المقبولة وغير المقبولة في كافة مجالات الخدمات الشرطية التي تقدم للمواطنين.
10- تنظيف جهاز الشرطة من العمل مع المليشيات واللصوص ووقف توظيفهم كجواسيس على الشعب ووقف استخدامهم كأيادي قذرة للقيام بالعمليات المشبوهة لصالح ضباط الشرطة ورجال الأمن.
14- القيام بمسيرة صامتة يوم 14 جانفي كل عام، تخرج من وزارة الداخلية لتصل إلى ساحة 14 جانفي لوضع أكاليل الزهور وتقديم واجب العزاء تخليداً لذكرى شهداء الثورة.
أعتقد أننا جميعأً نؤمن بكلام الممثل تيرينس هوارد " بأننا جميعاً ودائما لدينا الخوف الطبيعي من الشرطة أومن إساءتهم لاستعمال سلطتهم، ولكن خوفنا ليس هاجساً دون دليل بل خوفاً دامغاً بدليل.
لهذ فالبوليس يجب أن يبقى مصفدا بالأغلال " مكتف" الى ان نستكمل تنظيفه وتطهيره واصلاحه حتى لا يعود لغيه...


محمد المولهي