الخميس، 31 مايو 2012

طهر يا لمطهر... او السيد الوزير و قرار التطهير....




السيد الوزير ...وقرار التطهير..

قرار السيد وزير العدل نور الدين البحيري باعفاء 82 قاضيا من مهامهم هو القرار الأكثر جرأة وشجاعة وثورية على الاطلاق منذ هروب الرئيس بن علي ، بعد جرأة السيد فرحات الراحجي من قبله في اتخاذ قرار تنحية عدد كبير من كبار ضباط الشرطة ، وهو ايضا القرار الأهم منذ تأسيس دولة ما بعد الاستعمار الفرنسي المباشر في تونس والى حد اليوم فلم تشهد بلادنا في تاريخها القريب وحتى البعيد _لو شاطرني في ذلك المؤرخون_ اعفاء لهذا العدد الهائل من القضاة من مناصبهم صبرة واحدة بقرار وزاري على خلفية ملفات فساد محفوظة بالوزارة وبعد تحقيقات وابحاث مطولة ،
وقد علل السيد الوزير قرار الاعفاء بانه " بعد ان ثبت بما لا يدع مجالا للشك وبعد ابحاث مستفيضة ان هناك من تمادى وللاسف الشديد في الخطأ وتجاهلوا ما وهبتهم لهم الثورة من فرصة لمراجعة انفسهم اضحى من الضروري انهاء هذا الوضع الشاذ ووضع حد لكل ما يمكن ان يمس من شرف القضاء وهيبته ونزاهته ويضع مصداقية القضاة ومؤسسات الدولة بصفة عامة موضع شك وريبة ،
وان القرار ياتي انطلاقا من حرصها على مواصلة تحقيق برنامج اصلاح المنظومة القضائية العميق والشامل والمتعدد الابعاد مؤكدة أن اعلاء مكانة السلطة القضائية وتحقيق استقلاليتها واسترجاع ثقة العامة فيها يحتاج الى وضع حد لاثار وافرازات نظام الاستبداد والفساد وذلك برد الاعتبار للقضاة الشرفاء الذين عانوا من الظلم والاقصاء والتهميش ومساءلة المشتبه فى ارتكابهم لتجاوزات أخلت بحسن سير المرفق وشرف القضاء ومست من اعتباره ومكانته...
.واضاف السيد الفاضل السايحي _ديوان وزير العدل _ بان بقاء هؤلاء القضاة في مهامهم لحد الآن اساءة للقضاء ومس من هيبته ، وان الشعب لا يمكنه ان ينتظر اكثر في ميدان حيوى كالقضاء الذي كان من المفروض الا تتاخر القرارات بشانه لحد الآن لما له من دور مستقبلي سواء فيما تعلق بملفات الفساد العالقة او ببناء دولة القانون المرتقبة ،
ولئن انشرح لهذا القرار صدر الشعب باكمله الذي شعر انه ايذان ببدء تحقيق اهداف الثورة ، ومؤشر لاعادة الثقة لهذا القطاع وتهيئته ليصير سلطة حقيقية في البلاد ، وانشرح ايضا صدر السادة القضاة عموما والذين طالما نادوا بتطهير القضاء واعدوا قوائم للغرض من زملائهم الفاسدين ومنهم من ساهم في طردهم من قاعات الجلسات في الايام الأولى للثورة ومنهم من ساهم برفع العرائض لوزير العدل ضدهم بامضاءات جماعية للمطالبة باعفاء هذا القاضي او ذاك ، وانشرح ايضا صدر المحامين الذين طالما كانوا شهودا على فساد هؤلاء واكتوت به نار موكليهم ، وانشرح عموما كل من له صلة بالعدالة من قريب او من بعيد ، وخاصة المتقاضون الذين نزل عليهم الخبر بردا وسلاما الى الحد الذي جعل البعض منهم يتهور في التوجه الى منازل القضاة المعفيين ويتهجم عليهم ،_منزل وكيل جمهورية سليانة _ ،
وانشرح ايضا صدر كل مناضل ينادي بتطهير القضاء ، خاصة بعد تداول اسماء القضاة المخلوعين في قائمة اولية قد تليها قوائم اخرى وما اتضح من خلالها من ان شبهات كثيرة تحوم حول هؤلاء وهي محل اجماع العام والخاص ، واكثرهم ان لم يكن جلهم مشمولون بالقائمة التى اعدتها جمعية القضاة التونسيين ، الا ان هذا الاعفاء المؤذن ببدء المحاسبة لا في ميدان القضاء فقط ، وان كان له شرف السبق ، ولكن في كل القطاعات الأخري ،
اذ لم يرق لعدة جهات وعلى راسها نقابة القضاة التى تأسست بعد الثورة من قضاة محسوبون في اغلبهم على التبعية للنظام البائد ومن مؤسسيها من كان ساهم في الانقلاب على جمعية القضاة عام 2005 بايعاز من السلطة ، وهي التى تاسست اصلا كردة فعل على بروز جمعية القضاة ومناداتها بالمحاسبة في سلك القضاء ، فكانت بمثابة جمعية للدفاع الاستباقي عن النفس اكثر منها جمعية للدفاع عن كل القضاة ، فقررت النقابة بالامس الاضراب المفتوح عن العمل ، استبشر به المعفيون كثيرا لكن لا اعتقد انهم استبشروا بطلب النقابة احالة ملفاتهم على القضاء ،
ولا ندرى لحد الآن مدى الاستجابة لهذا الاضراب والى أي حد سيتواصل ،
خاصة وان الهيكل الآخر الأكثر تمثيلية للقضاة "جمعية القضاة التونسيين " التى بدت في الاول مترددة في قبول القرار متعلله بغموض الطريقة التى اخذ بها وبعدم ترك الأمر للقضاة ومحملة المجلس التأسيسي المسؤولية عنة لتباطئه في تكوين الهيئة الوقتية المشرفة على اصلاح القضاء المنصوص عليها بالقانون المنظم للسلط العمومية ،
و ربما كان ذلك الموقف من الجمعية تحت تاثير العاطفة فقط وعملا بمبدا النصرة للزمالة "انصر زميلك القاضي ظالما او مظلوما " ،
الا انها تداركت الموقف وشعرت بمدى التناقض الذي سيهزّ موقفها لو دخلت المواجهة بعنف في جانب القضاة المفصولين ، وهي التى ناضلت لسنين طويلة من اجل هذا المطلب فكان سبب بطولتها وصمودها في وجه الدكتاتورية من جهة ، ومقياس مصداقيتها عندما تمسكت به بعد الثورة بشراسة وطالبت بالاسراع به وصل حد تصريح رئيسها آنذاك على الهواء مباشرة " انه اتصل مرة بوزير للعدل او مسؤول في وزارة العدل فاخبره ان المعلومات التى لديهم تشير الى ان 80 بالمائة من القضاة في حاجة الى تاهيل "
فلن يكون معقولا ان تتجند الجمعية ضد قرار الاعفاء وهي التى رفعت شعار تطهير القضاء بعد الثورة وصل حد بيانات نارية ووقفات احتجاجية في عهد حكومة الغنوشي والسبسي ،
ولربما تميز موقف الرئيسة الحالية للجمعية بغموض وتحفظ كبيرين حول القرار في الأول يفهم منه الميل الى مساندة الاضراب ، وذلك لما اشارت الى ان الجمعية "ليست ضد مبدا الاضراب"
ولكن لاحظنا تراجعا واستدراكا سريعا وصل حد اصدار بيان تصرح فيه الجمعية انها لم تدع اليوم الى أي اضراب مثلما قد يتبادر الى الذهن ، بما يوحي بان الجمعية وانصارها من السادة القضاة مرتاحون لهذا القرار في قرارة انفسهم ولكن بمزيد من التحفظ ، اعتقادا منهم بان ذلك قد يساعد على تثبيت هيبة القضاء
بعض كتبة المحاكم مستاؤون ايضا من قرار السيد الوزير وقد صادف ذلك اضرابهم اليوم عن العمل بدورهم لتحسين اوضاعهم المالية ربما شعورا منهم بضعف مردوديتهم الانتاجية بعد الثورة خارج الاجرة التى يتقاضونها من وزارة العدل بعض المحامين مستاؤون ايضا لهذا القرار ، لعل الاسباب تظل مجهولة لدينا ، ولكن ثمة مؤشرات خطيرة تدل على تورط هؤلاء في دعم منظومة الفساد عموما فمنذ مدة غير بعيدة اقدم بعض الزملاء على امضاءات مساندة وشهادات زور بنضافة وكيل جمهورية سابق ، واستعدادا للشهادة بذلك امام تفقدية وزارة العدل باعتباره مثالا لهم في الاستقامة وحسن السلوك ، وفوجئنا الآن بان اسمه ضمن قائمة المعفيين ، (تجدون رفقة هذا المقال صورة لامضاءات هؤلاء ونص ما امضوا عليه ) والحقيقة ان الفساد في الاسرة القضائية فيه عدة شركاء لا يفسد القضاء الا بفسادهم ويجب ان تطالهم اجراءات التطهير، ولعل الحسابات الانتخابية في قطاع المحاماة ، وعدم استكمال تطهير تنقية القضاء بالنسبة للعدول وعدول الاشهاد والخبراء تعقد من مسالة المحاسبة في هاته القطاعات المساعدة للقضاء ، اما عن مدى شرعية قرار الاعفاء ذاته ، فربما استند الى شرعية ثورية واخرى قانونية ،
فأما الثورية فتتمثل في ان احد شعارات الثورة كان تطهير القضاء ولا فائدة في مزيد التذكير بان بعض القضاة هرب من وقفة مساندة للثورة في قاعة الجلسة دعت لها زميلته ومنهم من وقع طردهم من قاعات المحاكم ، وهربوا مذعورين من غضب الثوار ليس فقط خارج ردهات المحاكم او الى ديارهم ولكن الى خارج الوطن _مثل محرز بوقا _ وظلوا مطاردين من قبل جماهير الشعب الغاضبة في حين ان اغلب القضاة (المعروفون بنزاهتهم كالسيدة القارشي وكيل رئيس بالمحكمة الابتدائية بالكاف ) كانوا يسيرون جلساتهم في جو يغيب فيه الأمن بالكامل بعد 14 جانفي بايام قليلة جدا ولم يتعرضوا لأي مضايقة على الاطلاق ،واي اذى ،
واما القانونية فان القانون المؤقت المنظم للسلط العمومية ، لم يلغ ما منحه القانون لوزير العدل من ممارسة السلطة التأديبية واقتراح اعفاء من يجب اعفاءهم من قضاة طالما ان الهيئة المنتظرة التى سيكونها المجلس التاسيسي للاشراف على المنظومة القضائية لم تر النور بعد ،
خاصة وان المعلومات المسربة لحد الآن تؤكد ان عددا من المعفيين تضمنت ملفاتهم اعترافات بالفساد وادلة قاطعة عليه ، ( منهم من اشترى عقارات بمآت آلاف الدنانير وابرم عدة عمليات عقارية في ظرف ايام معدودة وهو لا يملك الا مرتبه ولم يبرر مصدر ثروته )
وقد خير البعض منهم بين الاستقالة لحفظ ماء الوجه وبين الاعفاء فخير الاعفاء ، وانهم _ المعفيون _ ولئن استبشروا كثيرا بقرار الاضراب المفتوح من النقابة المدافعة عنهم فانهم قد يرهقون كثيرا بموقفها الداعي للمحاكمة اولا ، فلربما خيروا : عودة للعمل وعفا الله عما سلف.
لذلك فقد مارس السيد وزير العدل سلطاته القانونية والشرعية طبق قانون 1967 في القرار الذي اتخذه ، وهي سلطات واسعة موروثة عن التوجه اللاتيني الفرنسي الاستعماري والتى طالما سلطها نظام بن على القضاة لترهيبهم وتركيعهم ومعاقبتهم ، وهاهي الآن تخدم منطق الثورة مؤقتا في انتظار الجنوح الى النظام الانقولوسكسوني الذي يعطي استقلالية وقوة اكثر للقضاة في مواجهة السلطة التنفيذية ،
وفي كل الأحوال فان الأمر ما يزال بيد القضاء ، فلا شك ان قرارت الاعفاء فضلا عن المهلة التى اعطاها وزير العدل للمعفيين للتظلم لدى رئيس الحكومة المقررة بثلاثة ايام من تاريخ اعلامهم بالقرار، فهي في النهاية قرارات ادارية تأديبية يمكن الطعن فيها لدى المحكمة الادارية التى يثق التونسيون كثيرا في احكامها التى كانت منصفة وجريئة عموما قبل الثورة ولن تكون الا كذلك بعدها .
ولعل ما يثير القلق بهذا الصدد هو ان هاته القائمة الأولى لم تشمل عددا من القضاة المتوقع ترؤسهم لقوائم الفساد وهم معروفون جيدا كل في الجهة التى يعمل بها ، فلا ندري ان كان ذلك لنقص في الادلة بعد حرص الوزارة على " اللاّ تظلم احدا " ، ام لأولوياتها وحساباتها السياسية كالتركيز مثلا في قائمتها الأولى على القضاة اصحاب الأقدمية لرصد ردة الفعل لدى القضاة اولا ، ولتفادي مواجهة مفتوحة مع كل ممثلي القضاة نقابة وجمعية ، وبداية جولة مع النقابة ذات المصداقية المحدودة لدى غالبية القضاة وخاصة الشباب منهم وبعض الاجيال التى سبقت ، ولكن ما يطمئننا ويؤرق قلة قليلة من القضاة ( بضع عشرات من بين آلاف ) وبعض مساعدو القضاء من محامين وكتبة محاكم وخبراء وعدول اشهاد وغيرهم من متقاضي السوء هو اعتبار هاته القائمة اولية أي ثمة قائمة او قائمات اخرى في الأفق ،
اما ما يزعج حقيقة هو ما قد يلوح من تتردد الوزارة في تنفيذ قرارها او التراجع فيه كليا او حتى جزئيا ، فقط تحت تاثير ضغط النقابة وبدون مبررات جدية ، فسيكون لذلك اثر كارثي على مصداقية الوزارة وعلى مصداقية حكومة الثورة برمتها وعلى مستقبل البلد عموما ، وايذان بانهيار المشروع الوطني برمته ،
ويأمل التونسيون الا تتراجع وزارة العدل عن هذا القرار تحت أي ظرف كان وان ينسج باقي الوزراء على منوال السيد نور الدين البحيري لنتحدث بعد ذلك عن ان الثورة حققت اهدافها في التخلص من رموز الفساد في كل القطاعات . وان مدى فشل أي ثورة او نجاحها يبقى دوما في مدى انتصارها على مواقع الفساد والفاسدين والا فانها الردة المدمرة التى قد تؤدي الى حرب أهلية طاحنة .

الأستاذ عمر الرواني



محامي و ناشط سياسي

ليست هناك تعليقات: